“أيقظته الطلقات! سبع رصاصات اخترقت الواجهة الغربية، واجتازت الممرات الكامدة، والتجاويف المشظاة، والهامات المشرئبة والهواء المصفر في القيظ، ثم استقرت في جسد ما: “إنه جسدي”. لم يكن لشيء أن يبعده عن مستنقع الحذر الذي هوى فيه، وهو يركض في اتجاه التكتكات المتشابكة التي أعقبت الرصاصات السبعن ركض بقوة ثور، واجتاز صخور المراح قفزاً، دون أن يلاحظ أنه لم يجرؤ في الأمس قط، على تخطي بعضها بسبب علوها الشاهق، ونواتئها الجارحة. كانت تبدو، وهي تلقي ظلالها بعضها على بعض، مثل نواطير كسولة ناعسة. وصل ممر سعد، ثم انعطف نحو اللسان الترابي المزروع كجزيرة وسط الصخور، تدله غريزة خارقة راقدة في قاع عقله إلى المكان: هناك رآه ممدداً على درب الحمير القديم، وقد جحظت عيناه، ممتلئتين بزئبق زجاجي ناصع، وشحب وجهه كطحلبن وفتح فمه برعب. مضت عليه دقائق، بدا شديد البياض وهو مستلقٍ ميت. “هايل” قال مخاطباً الميت الغريب الذي ارتدى ثياباً جديدة. فيما برز من الممرات ثلاثة رجال مسلحين يطلقون النار في الهواء من على ظهور خيولهم السوداء. ولحقت بهم امرأة وحيدة ملأت الوعر بالعويل. ثم هو أكل شيء حين تأكد الفازعون أن الممدد هنا قد مات. تأهبوا لحمله. فصاح فيهم فجأة: “لا! احكوا معه” انبجست فيه دفعة واحدة، ساعة مقتله قبل عشرين عاماً، لحظة لحظة، وصار يرتعش وهو يقول “يمكن ما مات! يمكن ما مات”… الشيء الوحيد الذي ما برح يساعده (حين كان حياً) كي يصيخ السمع، هو إغلاق العينين. لكن عينيه رفضتا أن تنغلقا بالوسائل التي جربها، لهذا ظلّ سمعه مشوشاً، تتخلله رطوبة الليل، وتفسده الرغبة المجنونة في النطق. نام قليلاً خلال ذلك.. ثم أعادته آهة ذعر ندّت عن أحد الرجال… حينئذ رحل وراءهم ببطء، تشبع الجو فجأة برائحة نتنة، فغمغم: “هذا أنت” وانسدت السماء فلم يعد يظهر أي نجم.. جرته قوة خارقة من مكانه، فاخترق رأسه عويل، وتدلى فجأة في الألوان النيلية التي طغت، ورأى هناك فراغاً شبحياً هائلاً. أفسدته ضربة فرّاعة قاطعة، وانتهى كل شيء”. مع قصر المطر يصل الروائي في خيالاته إلى أبعد الحدود، بل إلى ماوراء الحدود، إلى ماوراء المرئي في النفس الإنسانية وفي جسده. يتغلغل ودون توقف في مشاعر الإنسان وفي أحاسيسه, وتسير الأحداث مترجمة لانعطافات تأخذ معاني شتى يتقاطع عند نقاطها الخوف بالألم والشك بالحيرة، والمهادنة بالانتقام. ومن مناخات الرواية يقفز سؤال هل باستطاعتنا الانتقام لأنفسنا بأنفسنا بعد ذوي الجسد؟!