أكثر ما يمكن أن يبحثَ عنه المرء في حياتهِ هو السلامُ الداخليّ، فإذا لم تكن تعيش في سلامٍ داخليٍّ فمهما امتلكتَ من مادياتِ الحياة وترفها تبقى حياتك فارغة من السّعادة، ونفسيتك مُتعبةٌ وعالمك مُضطرب، فصراعات الإنسان النفسيّة هي المهدِّد الحقيقي لحياته، ظلَّ الفرزدق يبحث عن السَّلام الداخليّ من خلال معايشاته العديدة على مدى سنواتِ عمره البائسة؛ التي ابتدأت بفقدانهِ لوالدته وهو ما يزالُ في بواكيرِ طفولته، ثم توالت عليه الأحزان بفقدانِ جدَّته وأخته الوحيدة، ثم جدَّه الذي كان سندهُ الوحيد، عاش بعدها الفرزدق يقاوم مصاعبَ الحياةِ وقسوتها من عثرةٍ إلى عثرة ومن كبوةٍ إلى كبوة دون أن يرفعَ شارة اليأس، كان عائقهُ الوحيد هو المجتمعُ الذي قدَّم له صورةً متناقضة السّلوك وزائفة المبادئ، حيث كان يُبدي التَّصالح ويمارس التمييز سرِّاً، لم يكن أمام الفرزدق سوى الإقدام على العيشِ بروحٍ عاليةٍ ونفسٍ لا تخشى خوض غمار الحياة طالما لم يكن أمامه من خيارٍ آخر، مستحضرًا مقولة طارق بن زياد في خطبتهِ الشّهيرة (أين المفرُّ؟! البحر من ورائكم والعدوُّ أمامكم).
وعلى هذا النهج سارت به عجلة الحياة، خاضَ العديد من التَّجارب التي أصاب في بعضها وأخطأ في البعض الآخر، دون أن تثنيه عما هو ماضٍ فيه لتحقيق مبتغاه، عَرف دروب الحبّ، عَشِق أكثر ممَّا عُشِق، وخذَل أقلَّ ممَّا خُذِل، عنَّفته الحياة بشدَّة، وعاقبته الأقدار بقسوة، لكنَّه رغم ذلك لم يكن له أن يتراجعَ أو يستسلم، كان في كلّ تجربةٍ قاسيةٍ يخوضها أو اختبارٍ حياتيٍّ صارمٍ يمرّ به؛ ينعزل عن الناس لهنيهة، وقبل أن تحكمَ عليه عزلته قبضتها تراه يخرج عن شرنقتهِ كفراشٍ وليد، شاهرًا ابتسامتهُ أمام الجميع، مقبلًا على تجربةٍ جديدةٍ وإلى معتركٍ آخر لا يعلم بماذا يخرج منه، وكان على استعدادٍ دائمٍ لتقبُّل نتيجته مهما كانت، ولسان حاله يقول:” التَّجارب النَّاضجة هي ليست التَّجارب التي تخرج منها رابحًا أو خاسرًا، إنَّما التجارب التي تخرج منها مستوعبًا للدَّرس”.